ماذا يجرى داخل سجون الاحتلال الإسرائيلية؟

غزة: عبير لبد


في أقصى جنوب قطاع غزة، مدينة رفح، الساحة الخلفية لمستشفى يوسف النجار الحكومي تَعجُ بالنازحين والمواطنين المتواجدين لشحن أجهزتهم الالكترونية، بعدما توقفت إمدادات الوقود اللازمة لتشغيل مولدات طاقة شركة الكهرباء الوحيدة في القطاع، سبب ذلك انقطاع التيار الكهربائي على محافظات القطاع بالكامل منذ أكتوبر العام الماضي، وبدء العملية العسكرية الإسرائيلية المستمرة على غزة.

ذهبت أسوةً بالنازحين الأخرين في المدينة؛ لأشحن جهاز الموبايل الخاص بي، وأجهزة الكترونية أخرى، جلست على إحدى المقاعد الأسمنتية تحت شجرة معمرة مازالت قائمة تضم أغصان وأفرع كثيفة؛ لعلها تقي من أشعة الشمس الحارة، في الفترة الأخيرة توجه النازحون لاقتطاع الأشجار في الشوارع والأماكن العامة؛ لاستخدامها في إشغال الأفران الطينية المنتشرة في مناطق تواجد المواطنين والنازحين بديلًا عن أفران الغاز والكهرباء.

جلست بجواري فتاة في أواخر العشرينات من عمرها، ممتلئة بعض الشيء ذات ملامح صغيرة وابتسامة هادئة، سألتني إن كان بإمكانها أن تشحن جوالها عبر التشكر (وصلة كهرباء) الخاص بي، دون تردد أجابتها بالإيجاب، وتبادلتا الحديث كأي نازحتين، تسأل إحداهما الأخرى عن مكان النزوح وظروفه والأوضاع الصعبة التي باتت سمة حياتنا، وأخذت تروي قصتها مع النزوح لأتفاجأ باعتقالها من قبل الاحتلال الإسرائيلي وسجنها في إحدى السجون لفترة لم تتجاوز 50 يوم.

مداهمة ونهب واعتقال

إيناس بدوان، سكان حي الزيتون في جنوب مدينة غزة، رفضت النزوح برفقة أختها وعائلتها والتوجه إلى الجنوب، وفقا لما جاء في تعليمات الاحتلال الإسرائيلي في أكتوبر العام الماضي، وفضلت البقاء في حيها ومدينتها غزة مع الجيران.

في غزة لم تتنقل بدوان كثيرًا، لتمركز العمليات العسكرية الإسرائيلية في الشمال، ولكن سرعان ما ازدادت وتيرة العمليات العسكرية، وامتدت لتشمل الأطراف الشرقية والجنوبية من مدينة غزة، مع بداية شهر نوفمبر العام الماضي بدأت الاجتياحات البرية لحي الزيتون، وخلفت دمارًا هائلًا في المنازل والبنية التحتية، عدا الخسائر البشرية ما بين شهيد وإصابات.

انتقلت بدوان إلى بيت أحد المعارف الذي لا يبعد سوي أمتار عن بيتها، وبعد بضعة أيام اقتحم جنود الاحتلال الاسرائيلي المنطقة التي تتواجد فيها إيناس، وبدأوا بعملية مداهمة وتنفيش لمنازل المدنيين دون اعتبار لاي حرمة أو قانون، ولم تخلُ عمليات التفتيش من السرقة والإهانات للمدنيين، واعتقال بعض الشباب والنساء.

رحلة الاعتقال

معصومة العينين، ومقيدة الأيدي والأرجل خرجت من البيت بعدما نهب الجنود الأوراق الثبوتية والنقود والأجهزة الإلكترونية الخاصة" مغمضة العينين تقول بدوان، وتتابع مشيت حافية القدمين في طرق لطالما حفظها عن ظهر قلب، ولكن خطواتي تعثر كثيرًا؛ لعجزي عن معرفة الطريق؛ لكثرة الركام والحجارة والزجاج المتناثر على الطرقات، عدا دفعات بندقية الجندي الإسرائيلي التي تدفعني للإمام.

كنت البنت الوحيدة مع شابين أخرين تم اعتقالهما من نفس المنطقة، مشينا مسافة طويلة إلى أن أدركت أننا خارج القطاع، أصبحت أمشي على أسفلت وليس ركام ورمال، توضح إيناس، على حدود قطاع غزة، أنشأ الاحتلال الإسرائيلي مراكز تحقيق خاصة للمعتقلين القادمين من غزة، خضعت بدوان لتفيش كامل انتهك خصوصيتها، تم تعريتها تماما من الملابس وتفتيشها من قبل أحد المجندات الاسرائيليات مع غيرها من المتعقلات من غزة.

رحلة عذاب وانتهاك الحقوق

بعد الانتهاء من عملية التفتيش الكامل، بدأت إيناس رحلة التعذيب والتنقل بين مراكز التحقيق المنتشرة في مناطق الداخل الفلسطيني، وتنوعت أشكال التعذيب والإهانات التي يتعرض إليها المعتقلين من غزة، ويُشار إلى أن الاحتلال الإسرائيلي اعتقل أكثر من 9 آلاف فلسطيني منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، ومن بينهم أكثر من 300 امرأة، يعيشن ظروف صعبة وانتهاك لحقوقهن.

تصف بدوان المعسكر الذي احتجزت به قبل نقلها إلى سجن دامون- حيفا بالشمال، وتقول "بالوسط احتجز الجنود الاحتلال الإسرائيلي المتعقلات محاطات بأبراج المراقبة من الجهات الأربعة، لا يفصلنا عن السماء سواء الشبك لا يقي من البرد، أما الأرض فكانت الفراش رقيقة، ولا أغطية" وتضيف كان الليل مسرحًا لحفلات الجنود، أصوات الموسيقى، والرقص، والصراخ دون توقف، كل ذلك منعنا من النوم، وأحيانا يقتحمون المعسكر بالكلاب.

تنظر إلى السماء بابتسامة باهتة وتقول " خلال فترة اعتقالي بالمعسكر، أصابتني الدورة الشهرية، ولم أحظي بأي معاملة أو رعاية خاصة لظروفي الصحية، وكانت تُمنع عنا الفوط الصحية" تستكمل متبسمة، كلما أتاحت لي الفرصة كنت أطلب فوطًا صحية، على الرغم من عدم كفايتها، حيث كانوا يقدموا فوطة صحية واحدة فقط يوميًا، وهي غير كفاية"، وعن استخدام الحمام، كانت هناك مواعيد لاستخدامه لمدة دقيقة واحدة فقط لكل فتاة، وهي مقيدة الأيدي والأرجل.

مشهد تعذيب لا يُنسي

فرقة القمع؛ 20- 30 جنديًا إسرائيليًا مدججًا بالهراوات والواقيات والأسلحة الكهربائية ترافقهم مجموعة من الكلاب البوليسية بلحظة يقتحمون المعتقل، يبدؤون بالاعتداء على المسجونين العزل المكبلين الأيدي والمعصومين الأعين، الملقيين على الأرض دون حراك، يتلقون الضربات من كل صوب وبشكل عشوائي وجنوني" مشهد لا ينساها الدكتور خالد السر خلال فترة اعتقاله في السجون الاسرائيلية، ويكمل يدعون بأنها لحظة تفتيش للمسجونين، ولكن هي الأسوأ، والضرب يكون على الأطراف والمناطق الحساسة للمعتقلين، فقد تعرض البعض منهم لكسر في الأطراف، ونُقل البعض الأخر للمشافي للعلاج بعد إصابات وكدمات في المناطق الحساسة.

اعتقل الاحتلال الإسرائيلي الدكتور السر من مستشفى ناصر الطبي في خان يونس جنوب قطاع غزة في 25 مارس من العام الجاري، خلال اقتحامه لمدينة خان يونس للمرة الثانية، وتم اعتقاله وهو على رأس عمله في مجمع ناصر الطبي، خضع لتحقيق ميداني لمدة خمسة أيام بأحد المراكز التي أقامها الاحتلال الإسرائيلي بالقرب من مستشفى ناصر، وفي 30 مارس تم ترحيله عبر ناقلات الجنود إلى الداخل، حيث السجون الإسرائيلية.

عشت نصف الحرب الاسرائيلية في مستشفى ناصر الطبي بين أروقتها ومداوة المصابين والجرحى، والنصف الآخر في سجون الاحتلال الاسرائيلي، يصف السر حاله خلال الحرب الإسرائيلية المستمرة في غزة، قضي السر 83 يوم في سجن سيدي يتمان سيء السمعة، ويطلق البعض عليه سجن غوانتانامو إسرائيل؛ يرجع ذلك لارتكاب الجنود الاحتلال الاسرائيلي في هذا السجن انتهاكات حقوقية فظيعة في حق المعتقلين، وإذاقتهم فيه مختلف أصناف التعذيب والإهانة.

سجن غوانتانامو الاسرائيلي

سجن سيدي يتمان، هو أحد القواعد العسكرية التي أقامها الاحتلال الإسرائيلي مع بدء الحرب الإسرائيلية على غزة في السابع من أكتوبر العام الماضي، بجانب قاعدتي عناتوت وعوفر في الضفة الغربية، ويقع سجن سيدي يتمان بصحراء النقب على بعد 30 كيلومترا من قطاع غزة في اتجاه مدينة بئر السبع، السجن مقسم إلى أربعة أقسام من البركسات من الصفيح والزينكو، تضمن كل واحدة منها ما يزيد عن 100 معتقلًا في ظروف غير إنسانية وبلا مقومات للحياة، حيث يُنقل إليه من اعتقلهم الاحتلال الاسرائيلي في غزة؛ أطفال وشباب وكبار السن.

إسرائيل تعرف العدالة فقط في سجونها ضد الفلسطينيين" يوضح السر، ويتابع في السجن فقط لا فرق بين طبيب ولا بروفيسور ولا مهندس ولا عامل ولا مزارع جميعنا متساويين في التعذيب، الجميع يعامل أقل من البشر بدرجة لا ترتقي لإنسان، والجميع ينال نصيبه من القدر الكافي من القهر والإذلال والإهانة.

أشكال التعذيب

ظهرت شهادات لمعتقلين تم الافراج عنهم لمراكز حقوقية، تعرضهم لأصناف متعددة من التعذيب والتنكيل، لخصتها التقارير الحقوقية، بالتالي؛ إبقاء المعتقلين مقيدين على الدوام، وبعضهم تم بتر أطرافهم بسبب اثار القيود والأصفاد، وانتهاكات وامتهان للكرامة وتعذيب جنسي، وتعريضهم لروائح كريهة، وحشرهم في مساحات ضيقة، ومنعهم من التحدث والكلام، ونتج عن ذلك مقتل العشرات منهم تحت التعذيب، بالإضافة إلى إجبار المعتقلين على الوقوف لساعات وضربهم بالهراوات، وإحاطتهم الجنود المسلحين والكلاب البوليسية على دار الساعة، عدا منعهم من استخدام الحمام والاستحمام.

الأسرى كدروع بشري

لم يكتف الاحتلال الإسرائيلي بتعذيب المتعقلين، بل قام باستخدامهم كدروع بشرية في عملياته العسكرية في قطاع غزة، يقول حسن الغول أحد المتعقلين المفرج عنهم "أصابتني الدهشة عندما طلب مني جنود الاحتلال الإسرائيلي ارتداء الزي العسكري الخاص بهم، تجمدت في مكاني لم أستطع ارتداء الملابس، انهالوا عليَ بالضرب لدفعي لارتداء الزي العسكري بالكامل مع الخوذة والصدرية للحماية بمساعدة أحد الجنود" صمت للحظات ثم قال باكيًا بأسي "كنت جنديًا إسرائيليًا، ولكن دون أسلحة".

تابع الغول نُقلت مع جنود الاحتلال الإسرائيلي عبر ناقلات الجنود إلى قطاع غزة، وما إن توقفت الحافلة حتى وجدت نفسي بالحي النمساوي بالقرب من مجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس، طلب مني الضابط الإسرائيلي المسؤول أن أدخل مستشفى ناصر وأتفقد مبانيها بعدما طلب إخلاءها الاحتلال الإسرائيلي.

كنت أظنها أنها المرة الوحيدة والأخيرة التي أستخدم فيها كدرع بشري لجنود الاحتلال الإسرائيلي، لكن للأسف تم استخدامي من جديد كدرع بشري بزي طبيب فلسطيني أيضا داخل مستشفى ناصر الطبي" يوضح الغول، ويتابع "كنت خائفًا من مقابلة ومواجهة أحد الزملاء داخل المستشفى"، كنت مزودًا بكاميرات وميكروفونات للبقاء على التواصل مع الجنود، والالتزام بالتعليمات.

الآثار النفسية بعد الإفراج

الغول، يعمل ممرض في قسم الطوارئ في مستشفى ناصر الطبي، تم اعتقاله في نهاية شهر يناير/كانون ثاني من العام الجاري، عبر الممر الآمن (حلابات) خلال اجتياح الاحتلال الإسرائيلي لمدينة خان يونس بالجنوب، حيث جرد من ملابسه كغيره من المعتقلين الآخرين، ونقلهم عبر شاحنات لمعسكرات التحقيق على حدود قطاع غزة.

الإفراج رغم الفرح التي يتملك المعتقل إلا أنه يبقي أسيرًا لحالات التعذيب التي عاشها خلال فترة الاعتقال، ما بين عزل انفرادي وتعذيب جماعي، عدا الأوضاع النفسية التي يمر بها بعد الاعتقال، مكث الغول عشرين يومًا بالبيت بعد الافراج عنه، دون الاختلاط بالأهل والمهنئين، عدا حالات الهلوسة والصراخ الليلي والكوابيس الليلية، وعدم قدرته للدخول الحمام بمفرده.

وفقًا لبيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، يُقدر عدد المعتقلون من قطاع غزة 5 ألاف معتقلًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، عُرف منهم 310 حالة اعتقال من الكوادر الصحية، و36 حالة اعتقال صحفيين، ويرى الخبراء في مجال الصحة النفسية أن المعتقلين المفرج عنهم يعانون من آثار نفسية، تتمثل في الإصابة بالاكتئاب والقلق والرعب العام وخلق روح العداء تجاه الآخر.

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة